أقول : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض دال على أن العترة لا يفترقون عن كتاب الله العزيز مطلقا ، وعدم الافتراق يتحقق من جهات ثلاث :
الجهة الأولى : أنهم لا يفارقون القرآن في أقوالهم وفتاواهم ، فهي موافقة لمعاني القرآن الظاهرة والباطنة ، وذلك لأنهم علموا محكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وخاصه وعامه ، ومقيده ومطلقه ، ومبينه ومجمله ، فردوا المتشابه إلى المحكم ، والمنسوخ إلى الناسخ ، والعام إلى الخاص ، والمطلق إلى المقيد ، والمجمل إلى المبين .
ولولا ذلك لوقعوا في مخالفة الكتاب العزيز من حيث لا يعلمون ، فيقع بينهما الافتراق المنفي في هذا الحديث ، ويتحقق التعارض بين علامتي الحق المنصوبتين اللتين يجب أن تكونا متفقتين ، لأن كل واحدة منهما ينبغي أن تكون دالة على الحق ، وهذا لا يتأتى مع حصول التعارض بينهما .
الجهة الثانية : أنهم لا يفارقون القرآن في أفعالهم وسلوكهم ، وذلك لأنهم لما علموا بمعاني القرآن وفهموا مقاصده الشريفة عملوا بما فيه في جميع شؤونهم وأحوالهم ، فلا يقع منهم ما يخالفه لا عن عمد ولا عن جهل ولا عن سهو ولا غفلة . ولولا ذلك لافترقوا عنه في بعض أحوالهم ، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول عليهم بأنهم لا يفترقون عنه ولا يفترق عنهم .
الجهة الثالثة : أنهم لا يفارقون القرآن في الوجود ، فلا بد من وجود من يكون أهلا للتمسك به من أهل البيت عليهم السلام في كل زمن إلى قيام الساعة ، حتى يتوجه الحث المذكور على التمسك بهاتين العلامتين على ممر الدهور .
قال ابن حجر : والحاصل أن الحث على التمسك بالكتاب والسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت ، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة ( 24 ) .
وقال : وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي . . . إلى آخره ( 25 ) .
وقال المناوي : قال الشريف : هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلا للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك بهم كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانوا أمانا لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض ( 26 ) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : فانظروا كيف تخلفوني فيهما : معناه : فانظروا لأنفسكم ماذا تختارون : هل تسلكون سبيل الهدى باتباع الكتاب والعترة ، أم سبيل الضلال باتباع غيرهما ، والعاقل من يسلك ما ينجيه ، ويبتعد عما يرديه .
وفيه إشارة إلى قوله تعالى ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) ( 27 ) .
ولو نظرنا إلى أئمة المذاهب وغيرهم من علماء أهل السنة لوجدنا بعضهم يلجأ في أمور الدين إلى بعض ، وكل واحد منهم يعترف بالقصور ، فتأمل في سيرهم وأحوالهم وأخبارهم لترى أنهم علموا شيئا وغابت عنهم في أمور الدين أشياء وأشياء .
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فانظروا كيف تخلفوني فيهما إشارة إلى أن كثيرا من هذه الأمة لن يتبع الكتاب والعترة ، كما حدث في قوم موسى فيما أخبر به الله جل وعلا ، حيث قال : ( ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) ( 28 ) .
وهذا ما حدث في هذه الأمة ، فإن أكثر الناس جحدوا فضل العترة النبوية الطاهرة ، حتى لا يذكرهم ذاكر بما هم أهله من الذكر الحسن والثناء الجميل . قال المناوي بعد أن ذكر أن التمسك بالعترة واجب على الأمة وجوب الفرائض المؤكدة التي لا عذر لأحد في تركها : ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق ، فسفكوا من أهل البيت دماءهم ، وسبوا نساءهم ، وأسروا صغارهم ، وخربوا ديارهم ، وجحدوا شرفهم وفضلهم ، واستباحوا سبهم ولعنهم ، فخالفوا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته ، وقابلوه بنقيض أمنيته ، فواخجلهم إذا وقفوا بين يديه ، ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه ( 29 ) .
أقول : إن بني أمية وبني العباس صنعوا الأفاعيل بأهل البيت عليهم السلام فماذا فعل أهل السنة لنصرة أهل البيت ؟
تاالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتته بنو أبيه بمثله * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على ألا يكونوا شا * ركوا في قتله فتتبعوه رميما
ثم إن أهل السنة مضافا إلى أنهم مالوا عن أهل البيت إلى سواهم ، فاتبعوا غيرهم وقلدوهم ، فإنهم أنكروا فضل أهل البيت وجحدوهم حقوقهم ، واتفقوا على مخالفة الأحاديث الصحيحة الدالة على فضلهم عليهم السلام التي رووها في كتبهم وصححوها ، وهذا الحديث الذي نحن بصدد الحديث عنه ( حديث الثقلين ) مثال واضح بين يلزمون به ، والله المستعان