صعود القمر
قصة قصيرة
- 1 -
ثلاثة أيام مضت دون أن يأتي "سعود" إلى بيتنا .. هذه أول مرة يتغيب فيها كل هذه المرة .. منذ ولدته جارتنا منيرة و هو لا يعرف مكاناً غير بيتنا .. كأن أمي هي أمه و كأن أمه هي أمي .. تعلق بي منذ الشهور الأولى .. وهو الآن في السابعة من عمره لكنه لا يزال ذلك الطفل الذي لا يحب شيئاً في الدنيا مثلما يحب غرفتي هذه .. يعرف كل تفاصيلها .. و يعبث بكل شيء فيها .. لا أستطيع أن أخفي عنه أسراري .. إنه يفتح حتى رسائلي .. و يقرأ فيها بطريقته المتعثرة ..و أضحك على لثغته الجميلة و هو لا يعبأ من ذلك بل يمضي و يعبث بكل شيء و حين استفزه يبادلني بالانزواء بعيداً و يقرر ألا يتكلم معي و لا ينطق بأي كلمة أمامي .. فلا أصدقه .. ولكن ما إن يمضي شيء من الوقت حتى أشعر بأنه ابتعد عني بالفعل .. و أن شيئاً من الوحشة قد اعتراني بسبب صمته فأذهب إليه و أغني :
ألا يا سعود ما شفت القمر .
..................
فيبتسم قليلاً وينظر إليّ في حب و كأنه يتوقع مني كل مرة أن أغني له هذه الأغنية حتى يعود و يرضى .. و حين لا يرد عليّ أن استمر في الغناء .. ثم يقول :
إيه نعم شفته !!
وين شفته ؟
في عيونج
ثم يختلط ضحكي مع ضحكه .. و أضمه .. فيكاد يطير من الفرحة .. و يقول لي :
كل يوم ودي أزعل عليج
كل يوم ؟ ليش يا " سعود" ؟
حتى تغنين لي ..
بس !!
و تضميني ..
زين يا "سعود" ما دمت تحب أن أغني لك تعال إذن .. و اسمعني .. قل معي :
آنه اسمي "سعود"
وانتي إسمج "سعيدة"
يوم درز العود
أيامي جديدة
كان صوته جميلاً و هو يردد الأغنية معي .. خاصة حين يلثغ في نطق الراء فتبدو في فمه الصغير و كأنها بين الراء و الغين .. أحس بأن صوته الجميل يصدر من فرحة غامرة لا أعرف مصدرها ، لكنه يوحي لي أحياناً بمعنى غريب و هو يلعب في غرفتي .. كان يقول :
- " سعيدة " آنه من أشوفج أكبر .
- تكبر !! يعني كم يصير عمرك ؟
- كبير مثل أخوي خالد .
- الله أكبر يا " سعود " يعني أنت الآن أكبر مني ...؟!
- نعم أكبر
كأني أرى كل شيء في داخله يركض .. يركض إلى الأمام .. تماماً كما أن كل شيء في داخلي كان يركض .. يركض إلى الوراء .. كنت أرد عليه حين يباهيني بأنه أكبر مني :
- خلك أكبر يا " سعود " و خلني أصغر .
- أنت تصيرين أصغر مني ؟؟!
- نعم أصغر ..
- يعني تبين أصير ريال ...
و يمضي خياله .. أحاول ألا أعبأ بما يفكر .. أصمت عنه لحظات بينما يعبر الزمان و المكان .. ينقلني من غرفتي إلى الخارج .. و أنشغل عنه قليلاً بينما ينشغل هو في رسم وجوه جميلة يقول بأنها تشبهني .. أفكر بعيداً عنه .. أفكر في عدد الذين تقدموا مني و لكني كنت أرفض دوماً .. كنت أتطلع إلى الواحد منهم أبحث عن شيء غامض يوجد في زمن بعيد .. ربما في طفولتهم فلا أجد شيئاً و إنما أجدهم يرتدون أقنعة سميكة و مخيفة .. منذ ثلاثة أيام فقط انحسر جانب ما عن ذلك الشيء الغامض .. لقد رأيت " عبدالله " ابن خالتي و طلب الزواج مني و بالفعل وافقت أمي كما وافق جميع أخوتي و انتشر خبر ذلك بين جيراننا و أقاربنا .. و لا أدري ما إذا كان هذا الخبر قد عرف به " سعود " أم لا ..
- 2 -
لم ندرك في البيت كيف وصل الخبر إلى " سعود " و من هو الذي نقله إليه .. و كيف .. لكننا فوجئنا بغيابه منذ ثلاثة أيام عن الجلوس معنا على الغداء .. حين ذهبت إليه في الغرفة الصغيرة وجدته حينئذ قد غطى وجهه بلحاف متحاشياً النظر إلى أحد .. ناديته فلم يرد .. قلت له :
- سعود حطينا الغدا
- ..............
ظل على الفراش دون حركة .. لم أتمكن من رؤية وجهه .. لو رأيته لكنت أدركت شيئاً على الأقل .. جائته أمي مرة ثانية و نادته فلم يرد عليها .. ظنت أنه نائم و تركته ,, و مضى ظهر ذلك اليوم عادياً .. كنا نغمض أعيننا عن " سعود " ، لقد ظل على الفراش فترة طويلة .. لم يأكل و لم يشرب شيئاً حتى المساء .. و لم يتحرك من فراشه .. و لم يتكلم .. و لم ينظر إلى أحد ، حتى أمي لم تستطع معرفة ما به .. بعد أذان المغرب جئت إليه فحدثته .. كان صامتاً .. وضعت يدي على جسمه فوجدته يرتعد من البرد .. و يردد :
- سعيدة .. سعيدة
أخبرت أمي بأنه يردد اسمك .. و طلبت منها أن تذهب و تناديك كي تقنعيه بالطعام على الأقل ..
و حين جائت إليك هنا لم تجدك .. كنت في بيت خالك .. جلست بالقرب منك أتحين أي حركة .. سمعته يردد بلا وعي أغنية مبهمة لم أعرف من كلماتها شيئاً .. قلت له :
- هل ستأكل شيئاً يا " سعود " ؟ رد علي .. أنا أختك .. هل يؤلمك شيء ؟ هل نحضر لك طبيباً .. ؟ ..
لم يرد علي .. و لم يكشف لي عن وجهه . لم يكن يريد أن يرى أحداً .. مددت يدي تحت اللحاف ووضعتها على خده كي أجس حرارته .. كانت الحرارة عادية .. تركته و قلت لأمي دعيه الآن .. و استمر في الفراش .. أهملناه طوال الليل .. لم نعرف فيم كان يفكر .. توقعنا أنه سينهض مبكراً للمدرسة كعادته .. لكنه لم يتحرك من الفراش .. و جلست بجانبه .. و حين وجدته يهذي باسمك عرفت أن ما يعاني منه " سعود " أمر يتصل بك أنت .. قلت في نفسي :
ما الذي حدث بينك و بين " سعود " ، إنه يعود من المدرسة و ليس على لسانه سوى اسمك أنت .. و لا يكاد يصدق بأنه سيراك بعد قليل .. أحياناً يترك الغداء و يقول : سأتغدى في بيت " سعيدة " .. و لا ندري هل يأكل شيئاً معك أم يندفع بدون وعي منه .. يلملم دفاتره و يقول : " بأنك تعلمينه أحسن مما يتعلم في المدرسة " .. لم يحدث أن قلقت عليه أمي بسبب تأخره .. بمجرد أن تعرف بأنه كان معك يسكن في داخلها شيء كالمارد .. و حين يعود من عندك لا أحد يصدق ما هو عليه من فرح .. نكاد نرى صورتك في عيونه و في لونه و في حركاته و في صوته .. يغني بوله لا يمكن أن يصدر من طفل في مثل عمره .. رأيته بعيني هاتين يردد :
- ألا يا سعود ما شفت القمر
بينما تنحدر من عينيه دمعة .. صرخت عليه :
- سعود إشفيك .. ؟
- لا شيء ..
و يمسح دمعته بسرعة .. و في خجل .. ثم يطلعني على دفاتره و امتحاناته .. إنها مرتبة و نظيفة .. و درجاتها ممتازة .. متفوق في كل شيء .. لكني لم أفهم الشيء الغامض الذي جعله يتعلق بك على هذا النحو .. كنت أنظر إلى الأمر طوال الفترة الماضية على أنه تعلق عادي .. قد يرى فيك جمالاً لا يراه أحد .. رقة و حناناً لا يراهما في أحد .. حباً و عطفاً و أشياء أخرى كثيرة لا يراها في أحد غيرك .. ربما لا يراها في أنا ، أو حتى في أمي .. في البداية فهمت الأمر كذلك لكن حين وصل إليه خبر الخطوبة و الزواج بدا الأمر أبعد مما فهمت .. لقد بدأ يدخل في حالة غريبة .. بالأمس و عندما بدأ الليل انتابته حمى شديدة لم تخففها الكمادات و لا الأدوية .. اليوم ثالث أيام الحادثة التي يعاني منها " سعود " ، لم نعد نستطيع النظر إليه .. تغير شكله .. يا الله .. في ثلاثة أيام .. أصبح جسمه هزيلاً .. عيونه زائغة .. وجهه أصفر .. لا نكاد نسمع صوته و لا شيء
على لسانه سوى " يمه .. سعيدة "
و الآن فقدنا القدرة على أن نفهم ما يحدث لسعود .. لا أخفي عليك ، جميعنا في البيت يشعر بأنه يموت موتاً بطيئاً .. و اليوم سننقله إلى المستشفى ..
- 3 -
لم أقدر شيئاً مما يحدث لسعود .. و لم أتوقعه .. كنت أدرك بوضوح أنه كلما كبر ازداد تعلقه بي .. لكني كنت أندهش من بعض ما يقوله لي في عفوية لا حدود لها .. في أحد الأيام من العام الماضي أحس بحركة غريبة في منزلنا ، و أدرك بأن هذه الحركة لضيوف تقدموا لخطبتي و لم أوافق .. حين دخلت غرفتي وجدته ينتظر .. و يتصفح كتاب القراءة .. سألني :
- ماذا حدث ؟
- جماعة يخطبون .. و أنا لم أفكر في الزواج بعد .. أنا ما زلت أصغر منك يا : "سعود " أليس كذلك .. ؟
نظر إلي مبتسماً و كأن شيئاً غمر وجهه بدفء خاص ثم قال :
- أختي سعيدة .. حين أكبر لا أحد يتزوجك غيري أنا ..
ضحكت حينها ملأ قلبي .. أخذته إلى جانبي و ضممته إلى صدري .. و قبلته بحنان .. و أنهيت له دروسه .. ثم خرج لكن ظلت كلماته تثير ذاكرتي .. أضحك لها تارة ، و استغرب تارة ، و أفكر في عفويتها و براءتها تارة أخرى ..
لست مضطرة لإعادة النظر في حدود المشاعر التي تشدني " إلى سعود " بل أنا مرغمة الآن على التفكير بعمق فيما كنت ألاحظه على نفسي أولاً حين يكون معي في هذه الغرفة
شيء ما أبحث عنه في رجل لعله كان موجوداً في " سعود " .. ليس من الضرورة أن يكون هذا الشيء هو ذاته الذي تبحث عنه كل امرأة في الرجل الذي تحب و إنما قد يكون شيئاً خاصاً بي أنا .. لم يكن " سعود " يستفز غريزتي .. كان يستفز روحي .. و لم تكن تصرفاته معي تنطوي على رغبات مبكرة .. على العكس من ذلك .. كانت براءته معي لا حدود لها .. في أحد المرات دخل علي الغرفة و أنا نائمة .. و اقترب مني دون أن أشعر به و قبلني على خدي برفق شديد فاستيقظت ووجدته مرتبكاً .. ناديته و قبلته فانطلقت روحه في المكان و راح يشاغبني بأسئلته الكثيرة .
لم أضع حدوداً بيني و بين " سعود " ، كنت أعتبره أصغر أخوتي .. و قد أرتدي أمامه الملابس الخفيفة دون حرج .. أو يدخل علي و أنا أجفف شعري .. لم أكن أضع أي اعتبار لكونه صبياً .. كنت أشعر بأنه ينتمي لروحي .. ابتهج لطفولته و لعله في المقابل يشعر بذلك فيبتهج لأسباب أخرى لم أكن أقدرها ..
لا أعرف كيف تغاضيت عن خبر الزواج من ابن خالتي .. إنني لم أمهد له مع سعود .. كنت أدرك حساسيته الشديدة و كان علي الاحتياط على الأقل .. لكن المشكلة أن المسألة تمت بسرعة لم أتوقعها .. حتى أمي لم تخطط لذلك .. هل يستحق " سعود " ما يحدث له الآن مقابل خبر الزواج ؟ .. آه كم هو مؤلم أن أتخيل فقط كونه يعاني المرض من أجلي .. فكيف به الآن و هو في المستشفى غير قادر على الحركة .. على النطق .. و من يدري ربما يصبح غير قادر على أن يستمر حياً .. ثلاثة أيام فقط بعد خبر الزواج و فعلت به ما فعلت .. فكيف إذا انتظرت أياماً أخرى ؟ .. إني لا أطيق غيابه في هذه الأيام القليلة فهل سأطيق وداعه أو فقدانه ؟ .. من أين لي بصوته الذي يخرج من قلبي قبل أن يخرج من فمه ؟ .. و من أين لي ببراءته و نزقه ؟ .. و من أين لي بأغانيه ؟ .. و من أين لي بمخلوق أياً كان يستطيع أن يقترب من روحي كما اقترب " سعود " ؟ .. و من أين لي بإنسان تقدر له الحياة و البهجة و الهافية و دهشة البراءة و الطفولة ؟ .. يقدر لي كل ذلك تبعاً لما يقدر لي أنا .. هل هو مني و أنا منه إلى هذا الحد دون أن أدري ؟! .. كان يردد بأنه يري صعود القمر في عيوني .. و قد غبت عنه الآن أكثر من ثلاثة أيام .. آه ما أفظعني .. ما أفظعني ..
- 4 -
دخلت " سعيدة " المستشفى كالمجنونة .. كل شيء أمامها يبدو مفزعا ً .. الأبواب .. الكراسي .. البشر .. الممرات .. العربات .. خطى سريعة ، و أنفاس تترقب النظر لشيء عزيز .. اقتربت من الغرفة رقم ( 13 ) دفعت الباب فوجدت السرير خالياً و لا أحد في الغرفة سوى صوت الماء في الحمام الداخلي .. خرجت منه الممرضة .. سألتها بسرعة :
- هذه غرفة " سعود " ؟
- سعود نقل إلى العناية المركزة ..
خفق قلبها و لم تستطع احتمال حالة الخوف .. فألقت بجسمها على الكرسي ، و التقطت أنفاسها .. و بعد لحظات قاومت خوفها و انطلقت بسرعة إلى موقع العناية المركزة .. عندما وصلت إلى البوابة و تطلعت إلى الإضاء الحمراء و توقف بداخلها كل شيء إلا التفكير في " سعود " .. لم تعد تفكر حتى في الزواج من ابن خالتها .. إنها الآن مستعدة لأن تفعل كل شيء ، و أن تتخلى عن كل شيئ من أجله هو .. لم تعد تفكر بأنها أكبر منه و أنه مجرد طفل صغير .. أدركت بقوة أنه وحده ينتمي إلى مخيلتها و حلمها و روحها و قالت في نفسها :
" ذلك فقط هو ما يبقينا أحياء أمام بعضنا البعض " ..
تطلعت إلى الحاجز الزجاجي .. كان " سعود " غافياً و ثلاث ممرضات ينشغلن بترقب حالته ..
تطلعت إلى أخته الواقفة عند الباب و طفرت من عينها دمعة .. فتحت الباب دون أن تكترث بالممرضة التي حاولت منعها ..
اقتربت منه .. و انكبت عليه تقبله على وجهه و رأسه .. استيقظ " سعود " نظر إليها و صعدت أنفاسه .. رددت له بحنان شديد و دموعها في عينيها :
- ألا يا سعود ما شفت القمر ..
فجاوبها صوت بعيد و متعب :
*شفت القمر*